Posted in تحقيقات

سكة الحديد.. القصة باكملها

وعندما بدأت السلطنة بالإفراج عن إلتزامات خطوط الحديد عام 1890 في ولايتي سورية وبيروت ومتصرفيتي القدس وجبل لبنان بعد صراع دولي حاد بين السلطنة وكل من انكلترا وفرنسا وألمانيا، اقتدى أهالي طرابلس بما فعله أهالي بيروت فنظموا لوائح اكتتاب اسمية بقيادة المتصرف إبراهيم باشا وشكلوا لجنة منهم اسموها لجنة مندوبين، وارسلوا وفداً إلى الوالي عزيز باشا يحمل عريضة بمطلبهم.

.. ودعم فرنسي

والجدير بالذكر ان هذا الوالي كان قد بدا منذ البداية منسجماً مع مشروع أهالي بيروت، وكتب إلى القصر كي يصدر إرادته بجعل بيروت رأس الخط لشبكة سوريا، وأبدى كل لياقة في استقبال الوفد الطرابلسي ولكنه احتفظ بالعريضة مدة أسبوعين، ولكن خوفاً من أن يُثار ضده أي احتجاج رفع الوالي عزيز باشا عريضة أعيان طرابلس إلى القسطنطينية دون ان يلفت انتباه الباب العالي إلى أي شيء، ولكن لا مبالاته هذه لم تدم طويلاً، وقد تحول الوالي عن موقفه وأصبح من الداعمين لإنشاء خط حديدي ينطلق من طرابلس إلى حلب ماراً بحمص وحماه.

وكتب القنصل الفرنسي العام في بيروت الفيكونت بتيتفيل، يشير إلى عدة مسائل توضح هذا التحول:

أ- مطالبة أعيان طرابلس باتخاذ هذه المدينة رأس خط لشبكة خطوط حديدية في سورية كان المحرض عليها لوكوس مدير شركة الغاز في بيروت وهو متمول فرنسي.

ب- مطالبة أعيان بيروت باتخاذ هذه المدينة رأس خط لشبكة خطوط حديدية في سورية كان المحرض عليها برثيوز مدير شركة طريق بيروت دمشق وشركة مرفأ بيروت وهو متمول فرنسي أيضاً، ويوجد بين الرجلين صراع خفي.

ج- ان ما أقنع عزيز باشا وجعله يغير موقفه باتجاه طرابلس مسألة واحدة هي ان هذه المدينة تبقى في وضعها الجغرافي نقطة مميزة، فهي أفضل نقاط الساحل، كي تكون رأس خط حديدي لأن الخط الذي ينطلق منها لا تواجهه أية صعوبة طبيعية في انطلاقته إلى سهول الداخل، في حين ان خط بيروت نحو الداخل السوري تواجهه مرتفعات جبلية عالية.

وهكذا باتت مطالبة أعيان طرابلس بخط حديدي يصل مدينتهم بحمص على نار فرنسية، فبعد مرور الوقت الكافي على هذا التوجه والاقتناع بأن تمديد هذا الخط لم يعد يشكل أي خطر على خطتهم، جرى الإفراج عن فرمان هذا الخط، ففي 16 آذار 1910 بدأ العمل على إنجازه وجرى تدشينه في 19 أيار 1911 ووضع في الاستثمار الفعلي في أول حزيران 1911.

توقف قسري

وجعلت «سلنامة ولاية سورية» طول هذا الخط 104 كلم وعدد محطاته تسع بما فيها حمص وطرابلس، أما محطاته فهي انطلاقاً من طرابلس: العبدة، تل حبش، عكاري، تل قلعة، وادي خالد، كوزلاخر، خوربتيني وحمص. ويخترق هذا الخط سهل عكار من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، غير ان الفائدة المحلية من تمديد هذا الخط فقد جنتها مدينتا طرابلس وحمص بحيث توسعت تجارة كل منهما وفتح أمامهما باب الاستيراد والتصدير بشكل واسع، فالغاية من بناء هذا الخط هي ربط مدينة طرابلس بسهل عكار ومناطق الحبوب الموجودة في شمال سورية.

وأثناء الحرب العالمية الأولى اقتلعت أضلاعه الحديدية واستعملت في تجديد الخط الحديد باتجاه فلسطين وترعة السويس لنقل الجنود الأتراك، وبعد الحرب أعيد بناء هذا الخط من قبل شركة دمشق – حماه.

وقد توقف هذا الخط عدة مرات في العهد الاستقلالي عندما كانت تتوتر العلاقات اللبنانية – السورية ويتم خلالها إغلاق المعابر بين البلدين.

قطار بيروت ــ طرابلس

يذكر أنه في ربيع 1893 بوشر العمل في إنشاء خط حديدي يربط بيروت بطرابلس، بطول 90 كلم وقد أنجز أولاً خط بيروت -جبيل كما أشرنا، وبلغ عرض الخط كما هو خط طرابلس – حمص 5،144 سم، كما تم انشاء خط بيروت – دمشق وبيروت – رياق وخط بيروت – حيفا وخط رياق – حمص – حماه – حلب.

ولا بد من الاشارة إلى ازدياد قيمة الاراضي في المناطق التي تمر فيها هذه الخطوط الحديدية، حيث تعتبر مصلحة سكك الحديد في لبنان، من أكبر المؤسسات الحكومية في لبنان التي تمتلك عقارات وأراضي، وقد تعرضت هذه الخطوط منذ انشائها للتخريب ولمحالاوت منع مرور القطار، وقد عبّر نظام السكك الحديدية العثماني عن هذه الحالات وعهد إلى مختاري القرى ومجالس شيوخها ونواطيرها التي تمر فيها هذه السكك بحمايتها وحمّلهم مسؤولية التخريب وغير ذلك إذا ثبت أنهم قصّروا أو تكاسلوا في ذلك.

ومن المحتمل أن تكون عمليات التخريب، كما يقول الكاتب الياس جريج ناتجة عن ردات فعل المواطنين ضد المصالح الأجنبية بشكل عام والسكك الحديدية بشكل خاص، سيما وأن هذه السكك قد جاءت لتحلّ محل «المكارية» وتحرم الآلاف من لقمة عيشهم من خلال وسائل النقل القديمة التي تجرّها الدواب قبل انتشار القطار الحديدي.

حفل تشييع في المحطة

ويذكر المؤرخ سميح وجيه الزين واقعة طريفة حصلت في محطة سكة حديد طرابلس التي اتخذ منها الجيش الانكليزي في أعقاب الحرب العالمية الأولى مقراً لمستودعاته التي كانت تحتوي المواد الغذائية والتموينية وفرضت عليها حراسة مشددة، في حين كان الأهالي يعانون من مجاعة رهيبة، فقام عدد من عمال المحطة وهم من أبناء المدينة بإحضار ثلاثة نعوش ملأوها بكميات كبيرة من المؤن والملابس وغيرها، ثم حمل كل نعش أربعة عمال ومشى خلفهم عدد آخر من العمال، والحزن بادٍ على وجوههم.

ولمّا مرّوا أمام الحرس، رفع هؤلاء بنادقهم تحية للموتى، وهكذا استطاع العمال نقل المؤن إلى منطقة الميناء بعيداً عن المحطة وتوزعوا المؤن والملابس.

.. وغارة شعبية

وأثناء الحرب العالمية الثانية حدثت مجاعة مشابهة وقد تولى الفرنسيون توزيع الإعاشات على المواطنين وكان أغلبها من المواد الغذائية الفاسدة، بينما كانت عربات سكة الحديد تحمل أنواعاً جيدة من المواد الغذائية للجنود الفرنسيين.

فقام الأهالي بهجوم على العربات قصد الاستيلاء على محتوياتها وخاصة الطحين، فتدخلت الشرطة ورضخ الفرنسيون بتسليم كمية من الطحين لمكتب الاعاشة البلدي لتوزيعها على الأفران.

حادث مؤسف

ومن المآسي التي كانت تتسبب بها حركة انتقال القطار على سكة الحديد بعض حوادث السير على طريق عام طرابلس بيروت، فخط سكة الحديد كان يتقاطع في بعض النقاط مع الطريق البري الذي تستخدمه السيارات والمركبات وخاصة بين منطقتي عمشيت وجبيل.

وعند وصول النقاط المذكورة كان يطلق صفارته ويضاء نور أحمر عند تقاطع الطريق، فتتوقف السيارات لإتاحة المجال أمام القطار لمواصلة سيره.

وحصل خلال خمسينيات القرن الماضي ان اجتاح القطار أوتوبيساً لخطأ مفاجىء وعدم إنارة الضوء الأحمر، فأكمل سائق الأتوبيس سيره دون ان ينتبه إلى القطار وبالتالي لم يسمع صافرته، وكانت محصلة هذا الحادث المؤلم سقوط 15 شخصاً من ركاب الأوتوبيس قتلى وجرح آخرين.

Author:

دعما للسكة الحديدية في طرابلس

Leave a comment